الانتشار هو ظاهرة طبيعية أساسية تشير إلى الحركة التلقائية للمادة (مثل الذرات والأيونات والجزيئات والطاقة)، وعادة من منطقة ذات تركيز عالٍ إلى منطقة ذات تركيز منخفض. لا يلعب هذا المفهوم دورًا مهمًا في الفيزياء فحسب، بل يمتد أيضًا إلى العديد من المجالات مثل الكيمياء والأحياء وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلوم البيانات. ورغم أن عملية الانتشار تشمل العديد من التخصصات، فإن استكشاف العلماء الأوائل لهذه الظاهرة وضع بلا شك الأساس لفهمنا الحديث.
تأتي كلمة الانتشار من الكلمة اللاتينية "diffundere"، والتي تعني "الانتشار، التشتت"، مما يعكس طبيعتها العشوائية وغير المتوقعة في الأساس.
تم دراسة انتشار الغازات بشكل منهجي لأول مرة من قبل الكيميائي البريطاني توماس جراهام في أوائل القرن التاسع عشر. وأظهرت ملاحظاته أنه عندما تتلامس غازات ذات خصائص مختلفة، فإنها لا تنفصل إلى طبقات على أساس الكثافة، بل تنتشر في بعضها البعض وتظل مختلطة بشكل وثيق. لم يشكل هذا الاكتشاف تحديًا لفهم سلوك الغاز في ذلك الوقت فحسب، بل وضع أيضًا الأساس لنظرية الانتشار اللاحقة.
"الغازات ذات الخصائص المختلفة، عندما تتلامس، لا تنظم نفسها وفقًا لكثافتها، مع الثقيل في الأسفل والخفيف في الأعلى، ولكنها تنتشر تلقائيًا في بعضها البعض، مع الحفاظ على خليط متساوٍ."
بعد ذلك، اقترح أدولف فيك قانون فيك للانتشار في عام 1855، والذي يظل حجر الزاوية المهم في أبحاث الانتشار اليوم. يعتقد فيك أن التدفق الانتشاري يتناسب عكسيا مع تدرج التركيز، أي أن الانتشار هو النتيجة الطبيعية للحركة السريعة للمادة من منطقة ذات تركيز مرتفع إلى منطقة ذات تركيز منخفض. لا يمكن لهذا المفهوم وصف سلوك الانتشار بين الغازات فحسب، بل يمكن تطبيقه أيضًا على انتشار السوائل والمواد الصلبة.
كان الاكتشاف المهم الآخر في القرن التاسع عشر هو الحركة البراونية، وهي الحركة العشوائية للجسيمات الصغيرة في السائل. وقد وصف العالم البريطاني روبرت براون هذه الظاهرة في عام 1827، ثم درس ألبرت أينشتاين وعلماء آخرون آليتها المجهرية بعمق، مما أدى إلى تطوير نظرية الانتشار الحديثة.
كشفت الحركة البراونية عن كيفية انتشار المادة من خلال السلوك العشوائي، الأمر الذي كان له تأثير عميق على أبحاث الفيزياء في ذلك الوقت.لم يقتصر الانتشار في الماضي على الغازات، بل امتد أيضًا إلى المواد الصلبة. في أواخر القرن التاسع عشر، أجرى ويليام تشاندلر روبرتس-ألستون دراسات منهجية حول الانتشار في المعادن، وخاصة انتشار الذهب في الرصاص. يساهم هذا البحث في تطوير نظرية الانتشار في المواد الصلبة ويظهر أن العيوب الذرية، مثل الفراغات والذرات المدرجة، لها أهمية حاسمة في عمليات الانتشار في البلورات.
في سياق الكيمياء وعلوم المواد، لا يقتصر الانتشار على حركة جزيئات السوائل عبر مادة صلبة مسامية، بل يشمل أيضًا أنواعًا مختلفة من آليات الانتشار. يحدث الانتشار الجزيئي عندما يكون احتمال الاصطدامات الجزيئية أكبر من احتمال الاصطدامات بجدران المسام. يحدث انتشار كنودسن عندما يكون قطر المسام مماثلاً أو أصغر من متوسط المسار الحر للجزيئات المنتشرة. في هذه الحالة، ينخفض معدل انتشار الجزيئات بشكل كبير، مما يسمح للعلماء بالتمييز بين أنواع مختلفة من الانتشار في العملية.
لا تزال نماذج الانتشار وقوانينها مستخدمة على نطاق واسع في العديد من المجالات بما في ذلك الطب والهندسة وعلوم البيئة. إن الخلفية والملاحظات التي توصل إليها العلماء الأوائل لم تساعدنا في بناء النظرية الأساسية للانتشار فحسب، بل عززت أيضًا فهمنا وتطبيقنا اللاحق لهذه الظاهرة.الانتشار عملية عشوائية ويظل تعقيدها يشكل تحديًا في الأبحاث الحالية. ومن ناحية أخرى فإن ثراء هذا المفهوم يوفر مساحة تطبيق واسعة للباحثين في مختلف المجالات. لا يسعنا إلا أن نسأل: هل ستمنحنا التكنولوجيا المستقبلية فهمًا أعمق للانتشار والعشوائية الكامنة وراءه؟