عندما نتحدث عن الحداثة، لا يمكننا أن نتجاهل اسم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس. وباعتباره أحد ممثلي مدرسة فرانكفورت، فإن أفكار هابرماس لم تؤثر بعمق على المجتمع الفلسفي فحسب، بل تركت أيضًا بصمة مهمة في العلوم الاجتماعية والنظرية السياسية والمجال العام. تركز أعماله على قضايا العقلانية الاتصالية والمجال العام. ومن خلال هذه المفاهيم، يحاول هابرماس الكشف عن البنية العميقة والتناقضات في المجتمع الحديث وتقديم الحلول.
وقد طورت فلسفة هابرماس إطارًا شاملًا يعتمد على التقاليد الفلسفية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. ويرى أن القدرة على التواصل هي سمة إنسانية فريدة، وهي ليست أساس الفهم والتواصل فحسب، بل هي أيضاً جوهر عمل المجتمع الديمقراطي. وقد دفع ظهور هذا الرأي الناس إلى إعادة التفكير في التغيرات في المجال العام والبنية الاجتماعية وآثارها.في نظرية هابرماس، العقلانية التواصلية ليست مفهوما مجردا، بل هي قدرة موجودة في التفاعلات الشخصية اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، ناقش هابرماس بالتفصيل تطور الثقافة الأوروبية منذ القرن الثامن عشر في كتابه "التحول البنيوي للمجال العام"، مشيراً إلى كيفية استبدال "الثقافة التعبيرية" التقليدية بـ "المجال العام" الناشئ. وبحسب رأيه، ينبغي أن يكون المجال العام مساحة للمواطنين للتواصل والمناقشة بحرية، وليس مجالاً تهيمن عليه المصالح التجارية والسياسية فقط.
لا تقتصر نظرية هابرماس على المناقشات الأكاديمية، بل تشمل أيضًا جميع جوانب كيفية عمل المجتمع المدني في الحياة الواقعية.
ويعتقد أن المجال العام في مجتمع اليوم يتعرض للتآكل بسبب القوى المزدوجة للسوق والدولة، مما يؤدي إلى تراجع العقلانية الاجتماعية والطبيعة الديمقراطية. ويؤكد هابرماس أنه من خلال الحوار الاجتماعي العميق والتواصل العقلاني فقط يمكننا مقاومة هذه التهديدات وتجديد المجال العام.
يتطلب الموقف المثالي للحوار أن يكون للمشاركين صوت متساوٍ وأن يجروا حوارًا دون تأثير الأيديولوجية والأخطاء الأخرى.
ومن خلال مثل هذه الحوارات، يأمل هابرماس أن يخلق بيئة اجتماعية عادلة حيث يمكن للجميع أن يكتسبوا الاحترام والتقدير من خلال التواصل العقلاني. في الواقع، تقدم "نظريته في الفعل التواصلي" رؤية واعدة لمستقبل السياسة الديمقراطية، وهي رؤية تقوم على حقيقة مفادها أن الجميع قادرون على المشاركة في الحوار الاجتماعي.
ومع ذلك، في السياق الاجتماعي والثقافي المعاصر، يواجه فكر هابرماس أيضًا تحديات من ما بعد الحداثة. يشكك فلاسفة ما بعد الحداثة في مُثُل الحداثة، ويجادلون بأن الفئات التقليدية للعقلانية والحقيقة العالمية من الصعب الحفاظ عليها في سياق التعددية الثقافية والعولمة. وقد رد هابرماس على هذه التحديات وأشار في مقاله "الحداثة وما بعد الحداثة" إلى أننا لا نستطيع أن نتخلى عن السعي وراء أهمية وقيمة الحداثة.
إن موقف هابرماس هو أنه على الرغم من العديد من الإخفاقات في التاريخ، فإن السعي وراء العقلانية والتقدم البشري لا يمكن أن يتوقف.
وهو يزعم أنه من خلال إمكانات الحداثة ونقدها، يمكننا أن نجد طريقا أكثر إشراقا في المجتمعات المستقبلية. وهذا يدل أيضا على أن هابرماس يدعو في الواقع إلى ممارسة اجتماعية جديدة، على أمل استبدال غياب المعارضة والفهم بالعقلانية والحوار.
ملخصإن نظرية هابرماس ليست مجرد نقاش نظري، بل هي أيضا دليل ملموس للممارسة الاجتماعية. ومن خلال استكشافه العميق للمجال العام والعقلانية التواصلية، توفر أفكاره إطارًا قويًا لتشكيل وتطور المجتمع المعاصر. وأمام تحديات وصعوبات التحديث، فإن أهمية الحوار العقلاني والتفاهم المشترك الذي اقترحه هابرماس تستحق منا التأمل. فهل يمكننا، في ظل الظروف الاجتماعية الحالية، أن نجد السبل المناسبة لإعادة بناء المجال العام الإيجابي؟